الأحد، مايو 23، 2010

الكسوف

الكسوف

الساعة تشير الى الثانية عشر ظهرا ، بعد ليلة قاسية لم يغمض له خلالها جفن حتى الرابعة صباحا ، فتح عينيه بصعوبة - ومازال صوت المنبه يرن في أذنيه  – قاطعا سلسلة الاحلام والكوابيس التي لم تفارقه طيلة فترة نومه ،ليصدمه... النور وهو يغمر الغرفة بأشعة الحياة . وتيقن أنه مازال حياً ...!! مدَّ يده نحو علبة السجائر ، أخرج واحدة وأشعلها ، وسحب منها نفسا عميقا ،وتعثرت قدمه بكتاب (فاوست- غوتة ) ...-- كان يسلي به سهاده..و سقط من يده ...عندما غفا .. --  وهو ينهض باتجاه المطبخ ،  وعاد حاملا فنجان قهوته المعتادة ، جلس خلف مكتبه...وأدار مفتاح المذياع...الذي انبعث منه صوت فيروز (سنرجع يوما الى حيِّنا ... ونغرق في دافئات المنى....)... لتجتاح ذاته القلقة... جملة من المشاعر والرغبات ... والذكريات ...وبدافع جامح مسيطر  ،استبد به، وما استطاع أن يقاومه هذه المرة .    أمسك القلم بعد طلاق طال أمده ،  وبدأ يخطُّ على الورق ...نزيف مشاعر .... وأفكار ... دأب على الهروب منها حتى في احلامه :

وما صبابةُ مشتاقٍ على أملٍ ....من اللقاء ، كمشتاقٍ بلا أملِ

وتناغم مع فيروز .......(حيث تتماهى الانثى في الوطن):

سنرجع مهما يمر الزمان.... وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلا ولا ترتمي.....على درب عودتنا موهنا

وانساب القلم كعادته...في مثل هذه الظروف....مفرغا ...بعض ما تكدَّس في ذاكرته......:

أحببتها وظننت أن لقلبها
نبضا ً كقلبى  لا تقيِّده الضلوع ! !
أحببتها...  وإذا بها قلب بلا نبضٍ
سرابٌ خادعٌ ظمأ وجوع ! !
فتركتها  – رغم الاسى - لكن قلبى
لم يزل طفلا ً  يعاوده الرجوع
و إذا مررت - و كم مررت - ببيتها
تبكى الخطى منى  وترتعش الدموع ! ! .

وللحقيقة: هي التي  اختفت من حياته ...وتركته ...

انها دورة الفلك السرمدية ، فقد مضى ستمائة وثلاثين شروق وغروب على بدء احتلالها المواقع المتقدمة من تفكيره وعواطفه، ومئة نهار وليلة على اختفائها . وهو الذي عانى الكثير قبل ان ينجح في نقلها الى شاشة خلفية في ذاكرته ، حيث لم تعد تظهر إلا عندما تتوقف البرامج الاخرى عن العمل ... وحرص على استمرارية تشغيل جميع البرامج الاخرى(رغم تفاهتها)، فما عادت تظهر الا في بعض الاحيان !! كهذه المرة وقفزت الى ذهنه أسئلة  طالما تهرَّب منها.....: لماذا اختفت من حياتي؟!.. أما كان من الاجدر بي أن أزيلها من ملفات ذاكرتي ؟!.. لِمَ ارتضيت ابتعادها بلا كفاح....!؟... كيف...واين  ..............    لقد حاول  كل ذلك ولم ينجح . لقد تجذَّرت في ذاكرته العاطفية ،فيروسا لم تشهده ذاكرة من قبل . واغرورقت عيناه بالدموع لتسقط احداها على الورقة ، وأظلمت الغرفة من حوله ،وشعر بألم متزايد يمتد من الكتف اليسرى الى اطراف الاصابع !! .. تساءل في هدوء عاقل : أهي بداية النهاية...؟!..رفع بصره صوب النافذة ،وهو يمسح عينيه بكلتا يديه ، وإذا به يبصر نجوم الظهر تتلألأ في سماء شبه مظلمة ، ولتمرَّ ثوان معدودات خالها دهرا ، قبل أن يدرك أن ما حدث هو  (الكسوف الكلي  للشمس ).الذي ضجت به المحطات الاعلامية بالأمس...........
وضع القلم جانبا ، ووجه بصره نحو نجوم الشمال ، محاولا تبيُّن مواقع نجوم الدب الاكبر والدب الاصغر  ونجم القطب ،كما اعتادا...أيام الخمر والزهور... عندما كانا يخلوان معاً (والشيطان ثالثهما ...كما كانت تقول له وهما في ذروة نشوتهما ) .... في الليالي التي يغيب فيها القمر. وهما يعدّان الشهب التي تقذف بها الملائكة شياطين الجن المتلصصة على ملكوت السماء.....
واستيقظت ملأ روحه رعشة البكاء ، واشتمَّ من خلالها رائحة الزمن الهارب  مع دورة الافلاك ، وعادت الدموع تملأ  عينيه واستيقظ ذلك الحزن البهيج الذي طالما افتقده في ايام بُعدها ،والذي ما زال  صديقه الاوفى .
نهض من مكانه ، وشغَّل مفتاح النور وعاد متثاقلا الى قلمه وورقه .... ليتابع كتابة أبيات شعر للمتنبي:

الحزنُ  يُقْلِقُ  والتجمُّلُ  يردعُ  = والدمعُ   بينهما   عَصِيٌّ     طيِّعُ
يتنازعان  دموعَ  عين  مُسهَّدٍ  = هذا ،  يجيء  بها،  وهذا   يرجعُ
إني  لأجبُنُ من  فراقِ   أحبتي= وتُحسُّ نفسي بالحِمامِ فأشجعُ
ويزيدني غضبُ الأعادي قَسوةً = ويُلِمُّ  بي عَتبُ  الصديق  فأجزعُ
تصفو الحياةُ  لجاهلٍ  أو غافلٍ  = عمَّا   مضى  منها ،  و ما  يُتوَقَّعُ
ولمن يُغالطُ في الحقائق نفسَه = ويسومُها طلبَ المُحالِ فتطمعُ

.....في انتظار..... انقضاء نزوة العشق..!!. وانسحاب  القمر ..!!.وعودة الشمس ...واهبة النور والحياة........و .....و..... والمنتظر ؟؟؟!!!.. الآتي ..
..من غير نداء....!!....

ليست هناك تعليقات: