الأحد، مارس 28، 2010

اللعبة القذرة

ما عاد القلم ينساب على الورق ، كعهدي به ، أيام كان للزمن بعض رونقه ، وللحياة بعض معناها . وما عادت الأفكار تتزاحم في الدماغ الذي كان مفعماً بالحيوية والشوق إلى المعرفة والإبداع . لقد هرم الفكر ، وشقت فيه يد الزمن شروخاً ، فما بقي غير جزر فكرية مبعثرة في بحر العقل الذي أوشك على النضوب .وما زال السؤال الأزلي المعهود ؟؟!!…. يتأرجح بين السؤال ورد السؤال ، رغم تكدس المعارف والخبرات ، ورغم البصمات المعروفة للعمر الممعن في الهروب ، ووهم السعادة الزائلة ، ولحظات الزمن المقتولة ، على الروح والجسد .
 ومع هذا الانسياب المتعثر للقلم بدأت تتداعى بعض ومضات الفكر الخابية ، وأخذت تتجمع لتصوغ لوحة باهتة ناطقة ،ارتسمت في مخيلتي منذ زمن ليس بالبعيد ، بينما كنت أستريح على مقعد في حديقة عامة .
 كان الخريف قد رحل ، وهاهو الشتاء في أيامه الأولى ، ونتف صغيرة متقاربة من غيوم رمادية مسودة ، بدأت تعبر الأفق ، ونسمات باردة تداعب الأغصان العارية ، يخفف من حدتها بعض من أشعة الشمس الهاربة من بين فُرَج الغيوم بين الآونة والأخرى .
 كانوا أربعة ، وسم الزمن وجوههم بخاتمه الأزلي المعروف ، وجمعتهم في ذلك اليوم ، وككل يوم ، جلسة استراحة ، على مقعدين متقابلين بجوار مقعدي في تلك الحديقة المقفرة ،بعد رياضة المشي الصباحي المعتادة . جلسوا صامتين، يصغي كلٌ منهم لحديث الآخر ، ولا يعكر صفو حديثهم الصامت ، إلا صوت احتكاك الغصون ، وزقزقة بعض العصافير الباحثة عن بقايا طعام أو ملجأ ،وضحكات طفلٍ يركض متعثراً...ملبياً..نداء أمه ...للعودة الى البيت... و ذلك الفضولي الجالس في المقعد المجاور يراقب هذا المشهد الانساني الصامت .
تنهد أحدهم ، وهو يحكم لف قبة معطفه حول رقبته، بيد مرتعشة ، وتمتم بصوت شبه مسموع: ‍ . . . الحياة طويلة . . .ما عدت أحتمل !.. ما يعزِّيني أننا أصبحنا على عتبة دار النعيم والخلود..!....
 وبينما كان الآخر يسرح ببصره بعيداً ، صوب غيمة سوداء كبيرة تقترب ، وبعد أن سحب نفساً عميقاً من لفافة تبغ ترتعش بين إصبعيه ، قال: ما كنت أريد وجودي لو خُيِّرت ؟ . . .
 نظر الثالث إليه نظرة عميقة ، وهو يعدل جلسته في المقعد،وبلهجة المفكر الواثق الذي لا ينتظر رداً ، قال: ألا ترون معي يا أصدقائي أنها لعبة قذرة غير متكافئة .
وفجأة تكاثفت الغيوم ، وبدأ الرذاذ يتساقط ، نهض الرابع متوكأً على عصاه واتجه بخطى متعثرة صوب باب الحديقة وهو يتمتم: كفاكم فلسفة ... سنرحل قريباً.... ! !؟
 تبعه الآخرون دونما كلمة ، وأومض البرق مبدداً ظلمة الغيوم ، وقصف الرعد عازفاً لحن الطبيعة الخالد ، وبدأ المطر ينهمر بغزارة ، لأجد نفسي ما أزال جالساً على مقعد الحديقة ، وكلمات الأربعة تتصارع في عقلي ، وماء الحياة يتسلل عبر ملابسي ، غاسلاً جسدي . والريح تصفع وجهي بلمساتها الحانية . ولساني يلعق بعضاً من قطرات المطر المنسابة على وجهي ، وشفتاي تتمتمان (مع عمر الخيام) :
لبست ثوب العيش لم أستشر = وحرت فيه بين شتى الفِكر
وسوف أنضو الثوب عني = ولم أدرك لماذا جئت؟. أين المفر؟
… ومع (فيرلين):
المطر ينهمر على المدينة لماذا؟..دون أي حب أو كره أجد في قلبي هذا الحزن .
وتستمر الطبيعة في عزفها ألحان الحياة !!!!؟؟؟؟… غير مكترثة بإنسان أو حيوان أبدعته . وغير واعية لفرح… أو حزن …ألم .. أو ...........؟؟؟؟!!!!